جامع الامام محمد بن عبدالوهاب
خطبة جامع الإمام محمد بن عبدالوهاب الشيخ د. محمد بن حسن المريخي 27 جمادى الأولى 1438هـ الموافق 24 فبراير 2017م بعنوان "يوم تُبلى السرائر"

  13-03-2017

 الخطبة الأولى:

الحمد لله رب العالمين يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ويعلم ما يسرون وما يعلنون، أحمده سبحانه وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله وصفيه وخليله وأمينه على وحيه وشريعته صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد، فيا أيها المسلمون .. أوصيكم ونفسي بتقوى الله وطاعته ومراقبته في السر والعلانية، اتقوا الله رحمكم الله واستمسكوا بدينه القويم على منهج رسوله الأمين، عضّوا على السنّة بالنواجذ واهجروا البدع والخرافة والتفتوا إلى ما فيه أمنكم وأمانكم وسعادتكم وفلاحكم.

عباد الله .. القلوب أوعية الأسرار، والصدور مكمن النيّات والخفيّات ومن عظمة الله تبارك وتعالى علمه واطلاعه على ما تكنّه الصدور وتخفيه، وما استقر في النفوس ولم تبديه "وهو الله في السموات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون"، "وربك يعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون"، "والله يعلم ما تبدون وما تكتمون".

والسرائر يا عباد الله .. قضية مهمة جداً وخطيرة، فقد تكون السريرة إيماناً وإسلاماً وقد تكون كفراً وإلحاداً ونفاقاً، أو عداوةً وبغضاء، أو رضىً ومباركةً لما لا يحبه الله أو كرهاً ومعاداةً لما أمر الله به وأوجب، أو مناصرةً لأهل الديانة والأمانة، أو معاداة لهم وكيداً ومكراً بهم.

إن مصير الإنسان يا عباد  الله متوقف على هذه السرائر إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرءٍ ما نوى" رواه البخاري ومسلم، فحظ العامل من عمله نيته وسريرته التي لا يطلع عليها إلا الله تعالى، يقول النووي رحمه الله: دلّ قول رسول الله "وإنما لكل امرءٍ ما نوى" دل على أن ثواب العامل على عمله بحسب نيته الصالحة وأن عقابه عليه بحسب نيته الفاسدة.

وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عن رجل يقاتل مع المسلمين إنه من أهل النار، وقد تعجب المسلمون كيف يكون كذلك وقد قتل من المشركين ما لم يفعله واحد من الصحابة، فلما تبعه رجل من  الصحابة يراقبه إذا بذلك الرجل يقتل نفسه بعد ما أثقلته الجراح، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار فيما يبدو للناس وهو من أهل الجنة، إنما الأعمال بالخواتيم".

يقول الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى: قوله "فيما يبدو للناس" إشارة إلى أن الباطن خلاف الظاهر وأن خاتمة السوء تكون بسبب دسيسة باطنة للعبد لا يطلع عليها الناس، يقول عبدالعزيز بن أبي روّاد: حضرت رجلاً عند الموت يُلقن الشهادة فقال في آخر كلامه: أنه كافر بما تقول ومات على ذلك، فسألت عنه، فإذا هو مدمن خمر، وكان عبدالعزيز يقول: اتقوا الذنوب فإنها هي التي أوقعته.

والسريرة عباد الله .. هي التي بين العبد وربه، هي النيّة الحقيقية التي يكتمها ويكنها في نفسه، ولا يطلع عليها إلا علام الغيوب.

يقول عثمان بن عفان رضي الله عنه: يأيها الناس اتقوا الله في هذه السرائر فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: والذي نفس محمد بيده، ما أسرّ أحد سريرة إلا ألبسه الله رداءها علانية، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، ثم قرأ الآية "ولباس التقوى ذلك خير ذلك من آيات الله لعلهم يذكرون".

السريرة عباد الله سبب لحسن الخاتمة أو سوئها، فمن أسرّ السرائر الحسنة وفقه الله تعالى لحسن الخاتمة وبلغه مناه وما ابتغاه، ومن أسرّ سرائر الشر عثر بخاتمة السوء وميتة السوء، وتوفاه الله غاضباً عليه.

وهذا يتطلب مراقبة الله تعالى وتصفية السريرة وتنقيتها ومعاهدة القلب واستحضار النية واستخلاصها لله تعالى وهجران الذنوب والتوبة منها أولاً بأول.

ولقد زعم أقوام أنهم يؤمنون بالله ويشهدون بالرسالة لرسول الله فكشف الله تعالى سريرتهم بأنهم كاذبون "إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون"، وفضح الله سبحانه فريقاً أظهر الاعتذار والتأسف لرسول الله وأنه تأخر عن رسول الله منشغلاً بحوائجه وأهله وشؤونه وهو كاذب، إنما تأخر لعدم إيمانه واستسلامه لله وعدم قبوله لأمر الله ورسوله "يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم قل لا تعتذروا لن نؤمن لكم قد نبأنا الله من أخباركم"، حتى أنهم حلفوا كذباً لقبول اعتذارهم "سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم"، وهدد الله سبحانه وتعالى بفضح من سلك مسلكهم فأسر عداوته لله ورسوله والإسلام وأظهر الرضى والإيمان والقبول، هددهم الله بكشف سرائرهم لأنهم يبطنون خبثاً وعداوة وكيداً ويظهرون على ألسنتهم فقط المسالمة والمحبة، فقال: "يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم"، فإنه سبحانه وتعالى لن يتركهم يكيدون لدينه ورسوله وعباده ويخادعونهم بل سيخرج ويكشف لعباده حقيقة هؤلاء "أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم – يعني عداوتهم وحسدهم – ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول والله يعلم أعمالكم"، يقول ابن كثير رحمه الله عند هذه الآية: أيعتقد المنافقون أن الله لا يكشف أمرهم لعباده، بل سيوضح أمرهم ويجليه حتى يفهمهم ذوو البصائر وقد كشفهم وأظهر فضائحهم في سورة التوبة ولهذا كانت تسمى بالفاضحة.

أيها المسلمون .. كم من الأعمال الكبيرة أفسدتها النيات الخبيثة وكم من الصدقات والمودات والرفقة هدمتها السرائر المظلمة التي كان عمرها قصيراً، وكم من الأنفس هلكت وتهلك لفساد سرائرها وما تربت ونشأت عليه فلا تصاحب إلا لمصلحة ولا تآخي إلا لمنفعة ولا تبذل إلا لمردود تنتظره وترجوه أفلا يتقي الله البعض ممن زاغت قلوبهم وانحرفت توجهاتهم وزلت أقدامهم ، يعادون الإسلام وهم أبناؤه ويكيدون لعباد الله وينصرون من أذل الله ويُذلون من أعز الله، إذا ذكر الله ورسوله والإسلام والدين القويم والمنهج النبوي اشمأزت قلوبهم وهاجت نفوسهم وبرزت عيونهم، وإذا ذكر الفساد والشهوات واللهو واللعب والدنيا إذا هم يستبشرون.

أفلا يخاف الله هؤلاء من الله عز وجل أن يكشف حالهم ويفضحهم في الدنيا على ما ينتظرهم في الآخرة من الهوان والعذاب بسبب سرائرهم الخبيثة التي يُسرّونها، ويْلَهم من جهلهم يحسبون إنهم يخادعون الله وهو خادعهم ويمهلهم ولن يهملهم، في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يخرج في آخر الزمان رجال يقتلون الدنيا بالدين - يعني يخلطون الدنيا بالدين – يلبسون للناس جلود الضأن من اللين، ألسنتهم أحلى من العسل وقلوبهم قلوب الذئاب" يقول الله عز وجل: أبِيَ يغترون أم علي يجترئون فبي حلفت لأبعثن على أولئك منهم فتنة تدع الحليم حيران" رواه الترمذي وقال حديث حسن، ينادون علانية وجهاراً بإبعاد دين الله تعالى عن شؤون الحياة يزعمون أنه تنزيه للإسلام، يقولون: لا تُسَيّسوا الدين ولا تدخلوه في الدنيا والسياسة والاقتصاد وحالة العالم اليوم والفوضى يقولون هذا ويظهرونه، ويبطنون غيره، من عزل الشريعة وعدم صلاحيتها وقدمها والعياذ بالله " والله يشهد إنهم لكاذبون"، "يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم"، "ألم يعلموا أن الله يعلم سرهم ونجواهم وأنه علام الغيوب"، يريدون حياة خالية من تعاليم الدين ودنيا عائمة هائمة على وجهها "أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتاً وهم نائمون أو أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحاً وهم يلعبون أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون".

إن السرائر يا عباد  الله ستكشف وتظهر يوماً ما رغم أنف الإنسان فإما أن تكون رفعة ومنزلة ومقاماً عند الله عز وجل، وإما أن تكون ذلاً وخزياً وفضيحة ، يقول الله تعالى عن يوم القيامة "يوم تبلى السرائر فما له من قوة ولا ناصر"، يعني الإنسان يومئذ.

يقول ابن القيم: أي تختبر وتظهر وتبدو في ذلك اليوم حتى يظهر خيرها من شرها ومؤديها من مضيعها – يعني ما حُمّل العبد من الشريعة والإيمان ومتابعة الرسول– وما كان لله مما لم يكن له.

يقول عبدالله بن عمر رضي الله عنهما: يُبدي الله يوم القيامة كل سر فيكون زيناً في الوجوه وشيناً فيها، والمعنى أنها تخبر هذه السرائر بإظهارها وإظهار مقتضياتها من الثواب والعقاب والحمد والذم.

فاعتنوا عباد الله بسلامة الصدور وصفائها وخلوها من سرائر الشر والخسة، والحرص عن إبداع سرائر الخير والإيمان في القلوب وما يحبه الله ويرضاه، وليكن اللسان صادقاً معبراً عما تكنه الصدور وتحتفظ به القلوب صادقاً مع الله عز وجل ومع عباده المؤمنين غير مخادع لهم ومراوغ، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم "يأيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون".

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم وفي هدي رسوله الأمين وتاب علي وعليكم وعلى المسلمين، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم وللمسلمين، فاستغفروه ثم توبوا إليه، إن ربي رحيم ودود.

الخطبة الثانية:

الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه وسار على دربه إلى يوم الدين.

أما بعد، فيا أيها المسلمون .. اتقوا الله تعالى وراقبوا ربكم عز وجل، واعلموا اخوتي الكرام، اعلموا أن الله سبحانه وتعالى مطلع على سرائر الإنسان، مطلع على ما تُكِنُّه القلوب وما تحتفظ به "يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الله لا ينظر إلى أجسادكم, ولا إلى صوركم, ولكن ينظر إلى قلوبكم"، فالقلوب يا عباد الله محل نظر الرحمن ينظر سبحانه وتعالى ويعرف ما فيها ولا تخفى عليه خافية.

فعلى المسلم أن يتق الله تعالى وأن يجعل في قلبه كل ما يحبه ربه ويرضاه، وأن يُبعد عن قلبه وعن سريرته كل ما يُسخطه الله تعالى ويُبغضه، وليتق الله أناس يجعلون في نفوسهم شيئا من الكره لدين الله أو لعباد الله أو لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنها سريرة خبيثة تورث خاتمة السوء كما قال ابن رجب رحمه الله تعالى.

فهذا الرجل الذي قاتل مع الصحابة وقتل كثيرا من المشركين حتى أُعجب الصحابة بقتاله، فجاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مًعجبين به، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذا الرجل "إنه في النار"، فتعجب الصحابة وذهب معه إلى المعركة ودخل معه رجل من الصحابة، فرأى الرجل يقاتل فلما أثقلته الجراح، لما كثرت عليه الجراح انتحر، قتل نفسه، وضع سيفه في صدره ثم تحامل عليه فخرج السيف من ظهره، يعني انتحر، فعاد الصحابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له أشهد أنك رسول الله، فلما استخبر النبي صلى الله عليه وسلم من هذا الصحابي عن ذلك الرجل قال يا رسول الله إنه لما أثقلته الجراح تحامل على سيفه فقتل نفسه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم  مظهرا ما كان يُكنّه من النية الخبيثة، قال: إنه كان يقاتل حميّة، كان يدافع عن أبناء عمومته فقط، ولا يقاتل في سبيل الله ولا يدافع عن الله ولا عن رسوله ولا عن دين الله، إنما كان يقاتل حميّة دفاعا عن أبناء عمومته فقط، فهذه كما يقول ابن حجر رحمه الله هذه دسيسة السوء أو الخبيثة التي أورثته سوء الخاتمة.

فيا عباد الله يحذر البعض من بُغض شيء مما يحبه الله تعالى ويرتضيه مثل الصلاة أو مثل التدين أو مثل إعفاء اللحى أو مثل الاقتداء برسول الله صلى الله  عليه وسلم، فهذه تُطرد من القلوب، لا تُجعل في القلب أبدا لأنها خبايا وسرائر خبيثة لا يحبها الله تعالى ويعاديها. كُره رسول الله أو كُره السنة أو مُعايرة من اهتدى بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن الله تعالى يقول: "من عاد لي وليا فقد آذنته بالحرب"، والمؤمن ولي الله والله تعالى ولي المتقين وولي المؤمنين.

فليحذر أولئك القوم الذين يُبغضون المتدينين الذين يجعلون في نفوسهم شيئا عليهم، سمى الله تعالى هؤلاء الذين يُبغضون عباده المصلين أو المتدينين أو الملتزمين بهدي رسوله سماهم الله تعالى مجرمين فقال: "إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون"، وهناك قال الله تعالى "إنّا من المجرمين منتقمون".

أحبوا الله تعالى يا عباد الله، ورسوله صلى الله عليه وسلم والصحابة والقرآن والشريعة، وابغضوا ما يُبغضه الله تعالى ورسوله، كونوا مع الله ورسوله في كل كبيرة وصغيرة في الظاهر والباطن، واعتنوا عباد الله بالقلوب وبالسرائر، لا تُكِنُّوا شيئا في سرائركم يُبغضه الله تعالى أو مما يُخالف هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما اعتنى أحد بسريرته واعتنى بقلبه إلا أعطاه الله تعالى لذة الحياة الدنيا وحسن الختام والإقبال على الله عز وجل بالحسنى، وما أسر أحد سرائر خبيثة في قلبه وفي نفسه إلا لقي الله تعالى غاضبا عليه، نسأل الله العفو السلامة.

هذا وصلوا وسلموا على من أمرتم بالصلاة والسلام عليه كما أمركم ربكم جل وعلا في محكم التنزيل بقوله "إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما".

 

http://www.jameaalemam.com