خطبة جامع الإمام محمد بن عبد الوهاب الشيخ د. محمد بن حسن المريخي 25 ربيع الآخر 1439هـ الموافق 12 يناير 2018م بعنوان "الفقراء والضعفاء"

  18-01-2018

 الخطبة الأولى:

الحمد لله رب العالمين يعذب من يشاء ويرحم من يشاء وإليه تقلبون أحمده سبحانه وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبدالله ورسوله وصفيه وخليله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد، فيا أيها المسلمون .. اتقوا الله تعالى، اتقوا الله رحمكم الله واستعينوا به، اتقوا الله ما استطعتم، واستمسكوا بالدين الحنيف أبدا، عضوا عليه، تمسكوا به قولا وعملا.

تحصنوا بحصون الدين فإنها لا تقتحم أبدا، وتعلقوا بحبال الدين فإنها لا تقطع أمدا، واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا.

عباد الله .. الفقراء والضعفاء والمساكين فئة مهمة في المجتمع، بل ضرورية لمجتمع رام الفلاح والنجاة والسلامة.

إنهم عملة صعبة كما يتحدث أهل هذا الزمان وكما يصفون أركان الاقتصاد ومقوياته والمؤثرات فيه الفقراء والضعاف الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً بسبب ضعفهم وقلة حيلتهم مدخر كبير لمن عرف قدرهم ومقامهم وإن الاستهانة بهم أو عدم الالتفات إليهم تضييع لخير كثير ومنع للرزق واستجلاب للقحط وتضيق الجانب الاقتصادي والاجتماعي وخراب للجوانب الحياتية كلها.

حذر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم من إهمالهم أو الانشغال عنهم فقال "واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطاً"، نزلت الآية في أشراف قريش الذين طلبوا من رسول الله أن يخصهم بمجلس لا مكان للفقراء فيه مثل سلمان وبلال وصهيب وعمار، وفي صحيح مسلم من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ستة نفر، فقال المشركون لرسول الله: اطرد هؤلاء لا يجترئون علينا، قال سعد: وكنت أنا وابن مسعود ورجل من هذيل وبلال ورجلان فوقع في نفس رسول الله ما شاء أن يقع فحدث نفسه – يعني بالاستجابة لمطلب المشركين- فنهاه الله تعالى وأنزل الآية الكريمة بالصبر مع هؤلاء المؤمنين ولا يتطلع إلى غيرهم من أهل الشرف والثروة عباد الدنيا.

وقال الله تعالى له: "ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه" وقال عز وجل معاتباً نبيه ومصطفاه "عبس وتولى أن جاءه الأعمى وما يدريك لعله يزكى أو يذّكر فتنفعه الذكرى أما من استغنى فأنت له تصدى وما عليك ألا يزكى وأما من جاءك يسعى وهو يخشى فأنت عنه تلهى كلا إنها تذكرة"، نزلت حين انشغل رسول الله عن عبدالله بن أم مكتوم بالمشركين طمعاً في إسلامهم.

فكان صلى الله عليه وسلم إذا وجد ابن أم مكتوم يبسط له رداءه ويقول له: مرحباً بمن عاتبني فيه ربي هل من حاجة؟ ليقضيها له اهتماماً به ورعاية وامتثالاً لأمر الله برعاية هؤلاء الخيّرين واستخلفه على المدينة مرتين في غزوتين.

أيها المسلمون .. الضعفاء والمساكين ومن ليسوا ظاهرين ولا معروفين في دنيا الناس لا يلتفت إليهم أحد إلا من عرف من تعاليم دين الله الإسلام، وإلا فهم مبعدون مطرودون خاصة عند من استولت عليهم الدنيا فقادتهم ووجهتهم كما في أزمان الناس هذه.

إن هؤلاء الضعفاء هم سبب استمرار الأرزاق من الله تعالى وهم سبب نزول الأمن والاستقرار في أرجاء الأرض والنصر على الأعداء، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم" فالبلاد والمجتمع والأرض التي فيها فقراء ومساكين وضعفاء يكرمون ويراعون ويلتفت إليهم أرض مباركة تدر فيها الأرزاق وتعمر فيها الحياة وتكثر فيها الخيرات ويدفع عنها السوء والمكروه والبلاء.

وفي الحديث "ولولا البهائم لم يمطروا" رواه ابن ماجه.

والمرء الذي يلتفت إلى هؤلاء الضعفاء ويواسيهم بالقول والعمل امرؤ موفق مسدد، موعود بالجزاء الضافي والأجر الوافي، محفوظ بإذن الله من بلاءات الدنيا إن شاء الله ناج من أهوال القيامة.

أيها الأخوة في الله .. ومن أخطر الأمور الاستهانة بهؤلاء الضعفة فبسبب هضم حقوقهم وإهمالهم يحل البلاء ويكون الضيق والعسر والشقاء، في الحديث "خير بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يحسن إليه وشر بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يساء إليه".

وقال صلى الله عليه وسلم "إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد" رواه البخاري ومسلم.

وهؤلاء الضعفة هم الفقراء والمساكين والأيتام والخدم والمكفولين ممن جعل الله تعالى رزقه تحت يديك فلا يتمكن من رزقه إلا عن طريقك، فمن الإحسان الذي تثاب عليه أن تؤتيه حقه باحترام واهتمام وترعى الله تعالى فيه، فلا تهنه ولا تضيق عليه بما جعل الله تعالى من قوة لك عليه وسبيل، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصى بهم خيراً فقال "اخوانكم خولكم – يعني خدمكم – جعلهم الله تحت أيديكم فمن كان أخوة تحت يده فليطعمه مما يأكل وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم فإن كلفتموهم ما يغلبهم فأعينوهم" رواه البخاري ومسلم.

وهدد من أساء إليهم ففي ذات يوم رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً يدعى أبا مسعود يضرب عبداً مملوكاً بالسوط فناداه من بعد قائلاً "اعلم أبا مسعود، اعلم أبا مسعود لله أقدر عليك من قدرتك عليه .. يقول أبو مسعود رضي الله عنه: فالتفت فإذا هو رسول الله ، فسقط السوط من يدي وقلت: هو حر لوجه الله، فقال رسول الله: أما لو لم تفعل للفحتك النار" رواه مسلم.

أيها المسلمون .. هؤلاء مكانتهم كبيرة عند الله تعالى أعني المسلمين منهم، ولا يحق لأحد أن يعتدي على أحد منهم ولو لم يكن مسلماً، يقول رسول الله "رب أشعث مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره" رواه البخاري ومسلم، فكم من الخير يفوت على نفسه هذا الذي يطرد هؤلاء ويستهين بهم، يقول النووي رحمه الله عن الحديث: لو حلف على الله – يعني هذا الفقير الذي لا قيمة له عند الناس – لو حلف على الله بوقوع شيء لأوقعه الله تعالى إكراماً له بإجابة سؤاله .

فليتقي الله تعالى البعض من الناس في مكفوليهم ومن تحت أيديهم وليحذروا ظلمهم وإهانتهم فإن الله حرم الظلم على نفسه وجعله محرماً بين عباده ، ومن اعتدى فله عذاب أليم.

وليس معنى هذا أن يكون الباب مفتوحاً لكل من هب ودب ليستغل فقره وضعفه أو ما جاء في الحديث فيشرق ويغرب في المجالس والمقاعد وكأنه يهدد أصحابها بتحذير رسول الله، وإنما المقصود في الحديث ذلك الفقير العفيف الصادق ذو العفة والكرامة والحياء الذي يحسبه الناس غنياً من عفته وحيائه وشديد تخفيه.

كما يترك الباب مشرعاً ليدخل منه ضعاف النفوس الذين احترفوا التسول وهم أغنياء فمدوا أيديهم وسألوا وليسوا محتاجين إلا أن الطمع والجشع وعبادة المال والدنيا، فتعدوا الحدود وأصبحوا فرقاً وجماعات منظمة تحترف التسول وتسافر من أجله وتقطع المسافات بخطط مدروسة ومظاهر وهيئات متعددة وأسماء مختلفة فدخلوا البيوت وحاولوا التعرف على أهلها وعرفوا المداخل والمخارج حتى أصبحت قضيتهم قضية تهم الدول والبلدان، وهؤلاء هددهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال "ما يزال الرجل يسأل الناس حتى يأتي يوم القيامة ليس في وجهه مزعة لحم" رواه البخاري. أي ليس في وجهه لحم بل وجهه عظم كله، وهذا الذي يسأل الناس تكثراً وهو غني لا تحل له الصدقة.

فليكن المؤمن عفيفاً حافظاً نفسه من ذل السؤال وليرحم المسلمون إخوانهم الضعفاء بمعاونتهم وقضاء حوائجهم ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً وليحذروا من العدوان والظلم وتضييع الحقوق ولينتبهوا للمتلاعبين المخادعين الذين يتظاهرون بالفقر والحاجة وهم كاذبون ممن اتخذ التسول مهنة له وعملاً يتكسب من ورائه.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم وفي هدي رسوله الأمين وتاب علي وعليكم وعلى المسلمين.

أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم للمسمين، فاستغفروه وتوبوا إليه إن ربي رحيم ودود.

الخطبة الثانية:

الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه وسار على دربه وتمسك بسنته إلى يوم الدين.

فاتقوا الله رحمكم الله وانظروا إلى هذه المسألة التي حث عليها الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، وهي الرحمة بالضعفاء والمساكين، يقول صلى الله عليه وسلم: "اللهم إني أحرج حق الضعيفين اليتيم والمرأة"، ومعنى أحرج حق الضعيفين أي أني أحذر من الإساءة إليهما، وأضيق على الناس في التعرض لهما وأحذرهما من أشد المؤاخذة والعذاب عند الله تعالى اليتيم والمرأة، وغيرهم من الضعفاء.

يتجرأ البعض على الضعفاء بأكل حقوقهم ومطاردتهم وملاحقتهم والإساءة إليهم وتعذيبهم حسيا معنويا وقتلهم أحيانا عياذا بالله، هؤلاء الظلمة حذرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، حذرهم من التعرض للضعفاء بصفة عامة، وخاصة الأيتام والمرأة لضعفها.

وليس من شيمة الرجل، وليس من شيمة المؤمن، وإنما شيمة المؤمن وإيمانه يدعوه ليستقيم على أمر الله تعالى.

فها هو رسولكم صلى الله عليه وسلم، جاءه عبدالله بن أم مكتوم مؤذنه كفيف لا يبصر، جاء ليتعلم الإسلام فانشغل عنه رسول الله مع غيره من أجل مصلحة الدعوة ومن أجل الدين فعاتبه ربه، أعرض عنه النبي صلى ليس تعمدا بل انشغالا بهؤلاء الصناديد، ليسلموا ليقنعهم بالإسلام فأعرض عنه صلى الله عليه وسلم، فجاءه العتاب من الله "عبس وتولى أن جاءه الأعمى وما يدريك لعله يزكى".

ولذلك بعد ذلك كان صلى الله عليه وسلم ما يلقى عبدالله بن أم مكتوم إلا وقال له مرحبا بمن عاتبني فيه ربي، هذه هي أخلاق المؤمن إذا ذكر بآيات الله تعالى تذكر.

الرأفة والرحمة، وما رحم أحد فقيرا من الفقراء ولا ضعيفا من الضعفاء إلا أعزه الله أيا كان، سواء كان مجتمعا أو بلدا أو حكومة أو حاكما أو إنسانا أو أي أحد.

ما رحم أحدا عبد الله الضعيف إلا أكرمه وأسعده وهذه هي شيمة المؤمن الذي يوجهه إيمانه وإسلامه، ولا توجهه عصبيته وكبرياؤه وفخره وعدوانه.

المؤمن يتابع أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، "لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر".

الجنة يكثر فيها الضعفاء والمساكين والفقراء، والنار والعياذ بالله يكثر فيها المتجبرون والمتكبرون والمستعلون على عباد الله.

فيا عباد الله، الله الله في أنفسكم، ارحموا أنفسكم يرحمكم الله تعالى، وخاصة في قضية الخدم والضعاف بشكل عام، لا تستغلوا ما مكنكم الله تعالى به أو فيهم من رقابهم بقدرة قادر، ولكن راقبوا الله تبارك وتعالى فيهم، فالمسألة كما كان النبي صلى الله عليه وسلم ينادي أبا مسعود، يناديه من بعيد وقد رآه النبي صلى الله عليه وسلم يضرب هذا المملوك، يضربه ضربا من شدة الغضب، يضربه ضربا مبرحا، وهذا المملوك يتلوى من الضرب من السوط، فناداه رسول الله عليه الصلاة والسلام أبا مسعود، يقول أبا مسعود فالتفت فإذا هو رسول الله، صوت من بعيد يناديه فالتفت فإذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم يزجره وينهاه عن هذا الفعل الذي يورد النار والعياذ بالله، يقول هو حر لوجه الله يا رسول الله، يقول: سقط السوط من يدي لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان في غاية الغضب عليه، فقلت هو حر لوجه الله يا رسول الله يعني أعتقه، ماذا قال له النبي صلى الله عليه وسلم؟ أما إنك لو لم تفعل للفحتك النار، بسبب اعتدائك على هذا الضعيف وهذا الفقير.

كم من الناس والعياذ بالله يفعلون هذا نسأل الله السلامة والعافية.

هذا وصلوا وسلموا على من أمرتم بالصلاة والسلام عليه كما أمركم ربكم جل وعلا في محكم التنزيل بقوله "إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما".

 

 

طباعة