خطبة جامع الإمام محمد بن عبد الوهاب الشيخ د. محمد بن حسن المريخي 21 رمضان 1438هـ الموافق 16 يونيو 2017م بعنوان " العشر الأواخر من رمضان "

  20-06-2017

 الخطبة الأولى:

الحمد لله الذي يمتن على عباده بمواسم الخيرات والأيام المباركات، أحمده سبحانه وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله وصفيه وخليله وأمينه صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً .. أما بعد،

فيا أيها المسلمون .. اتقوا الله تعالى وقدّروا نعمته عليكم وثمّنوا أوقاته الفاضلة التي يتفضل بها عليكم، فلقد أظلتكم أيام عشر مباركات، ونزلت بساحتكم الليالي الغر الكريمات، ليالي العشر الأواخر من رمضان المخصوصة بمزيد من الفضل والإحسان والمقام، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعاملها معاملة خاصة تختلف عن بقية أيام الشهر، ففي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره، وكان إذا دخل العشر شد مئزره وأحيا ليله وأيقظ أهله، وكان يخلط العشرين بصلاة وصوم ونوم فإذا كان العشر شمّر وشدّ المئزر، وكان يخصها بالاعتكاف، فيلزم المسجد ويتفرغ للعبادة والطاعة، وكان أصحابه يعتكفون اقتداء به صلى الله عليه وسلم.

أخوة الإيمان .. شهر رمضان تقوّضت خيامه، وتصرمت لياليه وأيامه، فقرب رحيله وأزف تحويله وانتصب مودعاً وسار مسرعاً، فاستدركوا بقيته بالمسارعة إلى اغتنام المكارم والخيرات والفضائل والقربات في هذه الأيام والليالي الباقيات منه، فإنها أيام غر في جبين الشهر، وليالي غر في جبين العمر مضت ليال غر بفضائلها ونفحات ربها، وأوشك باقيها على الرحيل وكأنها ضرب خيال، لقد قطعت بنا مرحلة من حياتنا لن تعود.

هذا هو شهركم وهذه هي أيامه الأخيرة، كم من أخ لكم استقبله فما استكمله، وكم من مؤمل أن يعود إليه فلم يدركه، إن عشركم هذه خزائن مليئة بالصالحات ورفيع الدرجات وإقالة العثرات وتكفير السيئات، وعتقاء النار وطالبي الفلاح والسعادات فانهلوا منها، واستخرجوا دررها، وتعلقوا بحبل الله تعالى المدلى منها، استغلوا هذه الأيام بالطاعة، وتفرغوا من شواغل الدنيا وابذلوا أنفسكم صلاة ودعاء وصدقاً واخلاصاً لعلكم تنالون أو تنالكم رحمة الله وبركاته، وفضائله ونفحاته، سخروا أنفسكم عباد الله في هذه الليالي مصلين وقائمين وتالين لكتابه، فإنها ليال الفلاح والسعادة.

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يطرق الباب على عليّ وفاطمة رضي الله عنهما يقول "ألا تقومان فتصليان؟، يطرق الباب ثم يتلو قوله تعالى "وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقاً نحن نرزقك والعاقبة للتقوى" رواه أحمد والبخاري.

ويتجه صلى اله عليه وسلم إلى حجرات نسائه آمراً "أيقظوا صواحب الحجر فرب كاسية في الدنيا عارية يوم القيامة" رواه البخاري.

أيها المسلمون .. اعرفوا شرف زمانكم واقدروا أفضل أوقاتكم وقدموا لأنفسكم ولا تضيعوا فرصة في غير قربة إن إحسان الظن ليس بالتمني، ولكن إحسان الظن بحسن العمل، والرجاء في رحمة الله مع العصيان ضرب من الحمق والخذلان، والخوف ليس بالبكاء ومسح الدموع ولكن الخوف بترك ما يخاف منه العقوبة.

هذه فرصة لتصحيح الأخطاء، وتعديل المعوج، والتبرؤ من الذنوب والتعلق بحبل الله المتين.

كل بني آدم خطاء، ولكن خير هؤلاء التوابون العائدون إلى ربهم النادمون الذين يستغلون مثل هذه الأيام ويغتنمون مثل هذه الليالي ليعقدوا الصلح مع ربهم عز وجل ويعاهدوه على السير في مرضاته ومجانبة سخطه وغضبه.

إن هذه الأيام والليالي، هي أيام العتق من النيران، والنار عباد الله غمسة واحدة فيها تنسي العبد نعيماً عاشه عشرات السنين بل يقسم العبد المنعم بعد ما مسته غمسة من نار جهنم إنه ما مر عليه نعيم قط ، فاستشعر النار وعقوبتها وعذابها وحرها، وتب إلى الله تعالى، وسارع إلى أن تكون مع عباده الذين يدعونه خوفاً وطمعاً.

إن النجاة من نار الآخرة فوز عظيم شهد بذلك ربنا عز وجل فقال "فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز".

أيها المسلمون .. إن أكبر البلاء أن يغفل العبد عن مثل هذه الأيام، يغفل عن العمل الصالح والتوبة خاصة في هذه الليالي، يغفل عن رحمات ربه التي تتنزل، والعتق والبراءة من النفاق والعذاب.

إن الغفلة عن انقاذ النفس وسلامتها ضياع ما بعده ضياع، وتردٍ إلى أسفل سافلين، لهذا وصف الله تعالى الغافلين بأقبح وصف فجعل الأنعام أرفع درجة منهم فقال "ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها إن هم كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون"، فافتح قلبك لما ينصح الله به العباد، والتفت إلى ما يهمك واحرص على ما ينفعك، واصغ سمعك لقوارع القرآن والسنّة وحوادث الزمان.

أيها المسلمون .. في هذه العشر الفاضلات ليلة عظيمة من أعظم ليالي الدهر بل هي أعظم الليالي وأكرم الأوقات ذكرها الله تعالى وخصها بسورة تتلى في كتابه، إنها ليلة القدر ولا يخفى عليكم فضلها ومقامها، أنزل الله تعالى فيها هذا القرآن العظيم تشريفاً لها وتعظيماً لوقتها "إنا أنزلناه في ليلة القدر ... "، "إنا أنزلناه في ليلة مباركة .... "، إنها خير من عبادة ألف شهر، تتنزل فيها الملائكة الكرام ومعهم كبيرهم جبريل الروح الأمين بالرحمات والخيرات والبركات يبشرون عباد الله المتقين، وقتها كله سلام ورحمة وبركة، بشر رسول الله الأمة أن من قامها يصلي ويدعو ربه غفرت ذنوبه ومحيت سيئاته ورفعت درجاته، يقول "من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه" رواه البخاري ومسلم.

ومن فضل الله تعالى أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشترط رؤيتها لمغفرة الذنوب إنما اشترط قيامها إيمانا واحتسابا، ولو اشترط رؤيتها لكان ذلك شاقاً ولكن رحمة الله وبركاته بهذه الأمة المباركة، وزيادة في الفضل والفوز بها أرشد عن وقتها بل وحصرها في هذه الليالي العشر فقال "تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان" رواه البخاري ومسلم.

وقد أخفى الله تعالى علمها على عباده رحمة بهم، ليكثر عملهم في طلبها في هذه الليالي بالصلاة والذكر والدعاء، ومن تضييع الأوقات وتفويت العمر أن يتشاغل البعض بعلاماتها فلا ينشطون للصلاة والدعاء إلا إذا رأوا شيئاً هنا أو هناك أو قال فلان أو علان.

أيها المسلمون .. الدعاء الدعاء في هذه الأيام والليالي، عجّوا في هذه العشر بالدعاء فإن ربكم بعد آيات الصيام قال "وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعاني فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون".

إن للدعاء في هذه العشر شأناً عجيباً وخاصية فافهموا، فإن الدعاء في هذه العشر يأتي في وقت وزمان وأيام وأوقات فاضلة، فهو في العشر الأواخر من رمضان، وفي جوف الليل والأسحار ودبر الصلوات وأحوال السجود وتلاوة القرآن.

كل هذا اجتمع لكم معشر المسلمين في هذه الأيام فأروا الله من أنفسكم خيراً فإن السعيد من رحمه الله تعالى في هذه الأيام والشقي من حرم رحمة الله فيها.

أيها المسلمون .. ليكن للواحد نصيبه وحظه من صلاة الليل سواء في المساجد أو في بيته خاصة في هذه الأيام التي من فضل الله تعالى يتفرغ الكثير من المسلمين لصلاة الليل ويأتونها راغبين صابرين محتسبين، وينصرفون منها شاكرين لربهم مستغفرين، وإن أفضل الصلاة بعد المكتوبة صلاة الليل تصفو فيها النفوس وتخشع فيها القلوب وتسكب فيها العبرات وترفع فيها الدرجات وتقال العثرات وتحط الخطايا وتكفر السيئات، ادعوا ربكم ولا تسأموا ولا تعجزوا ولا تستبطؤوا الإجابة ولا تستبعدوا فضل الله تعالى عليكم بدخول الجنة والنجاة من النار فإنها ليال تجري فيها أقلام القضاء بسعادة السعداء وشقاوة الأشقياء ولا يهلك على الله إلا هالك.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم وفي هدي رسول الأمين، وتاب علي وعليكم وعلى المسلمين، أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم لي ولكم وللمسلمين.

الخطبة الثانية:

الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمد عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه وسار على دربه وتمسك بسنته إلى يوم الدين.

أما بعد، فيا أمة الإسلام .. الله الله في أنفسكم، ابذلوا أنفسكم في هذه الليالي وهذه الساعات فإنها سويعات قليلة وليال تنتهي، مضى الشهر الفضيل، مضى كل الشهر.

فيا عباد الله .. الله الله في الاجتهاد، ابذلوا أنفسكم، كونوا عباد الله، حققوا الصيام الذي أراده الله تعالى، وصلوا بين يدي ربكم مخلصين وادعوا لأنفسكم، واكتبوا أنفسكم بعد إذن الله تعالى من الناجين، تسببوا عباد الله في الفوز بجنات النعيم بعد  إذن الله عز وجل بالصلاة والصيام والدعاء، وكونوا عباد الله الذين يستشعرون قيمة هذه الأيام وقيمة هذه الأوقات التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعاملها معاملة تختلف عن سائر أيام الشهر، فلا تدري عبد الله هل تدرك بقية الأيام أم لا تدركها؟، هل تشهد بإذن الله تعالى شهرا غير رمضان غير هذا الشهر أم أن الله تعالى لا يأذن لك فتنتقل إلى الدار الآخرة؟.

فمادام ربك تبارك وتعالى قد منّ عليك وبلّغك شهر رمضان وبلّغك العشر الأواخر منه، فاجتهد وابذل نفسك واعلم أنك مهما بقيت في هذه الدنيا لا بد أن تنتقل إلى ربك جل وعلا، فاعدد لنفسك مكانا بين يديه سبحانه وتعالى بعملك الصالح بعد رحمة ربك جل وعلا.

تعرضوا عباد الله لنفحات ربكم في هذه الليالي المباركات، استغنوا قليلا عن شواغل الدنيا لا تكونوا عباد الله ممن انشغل عن الشهر، أو عن أيام الله أو عن هذه الأوقات المباركة، لا تكونوا عباد الله كهذا الذي انشغل بما يحدث في دنيا الناس فشرق وغرب في تضييع أوقاته وفي إطلاق لسانه في السب والشتم وفي الطعون في الناس وفي الخوض في أعراض المسلمين وكأنهم لا يشعرون برمضان ولا يعرفون رمضان.

فالله الله .. عباد الله في أنفسكم، شمروا عن سواعد الجد في هذه الليالي المباركات، وسيروا عباد الله مع عباد الله المؤمنين الصالحين الذين ملأوا بيوت الله تعالى يصلون ويدعون الله تبارك وتعالى يريدون وجهه، يريدون النجاة يريدون العافية، إن كنتم ترومون العافية في أبدانكم وبلدانكم وأمنكم وأمانكم والنعم فعليكم بكثرة السجود عليكم بالتضرع إلى الله في هذه الأيام.

هذا وصلوا وسلموا على من أمرتم بالصلاة والسلام عليه كما أمركم ربكم جل وعلا في محكم التنزيل بقوله "إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما".

 

 
 
منطقة المرفقات
 
 
 
 
 
طباعة