خطبة جامع الإمام محمد بن عبدالوهاب الشيخ د. محمد بن حسن المريخي 23 شعبان 1438هـ الموافق 19 مايو 2017م بعنوان "نعمة الاستشعار"

  24-05-2017
اضغط على الصورة لعرضها بالحجم الطبيعي

 الخطبة الأولى:

الحمد لله الكريم الوهاب العزيز الغفار ، يخلق ما يشاء ويختار، أحمده سبحانه وأشكره وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن نبينا محمداً عبدالله ورسوله وصفيه وخليله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً ..

أما بعد، فيا أيها المسلمون .. أوصيكم ونفسي بتقوى الله وطاعته فإن فلاح الدنيا وفوز الآخرة مضمون للمتقين المخلصين.

عباد الله .. من أكبر المنن الربانية أن يوفق الله عبده فيريه الحق حقاً والباطل باطلاً ، ويجعل له بصيرة يعرف بها النافع من الضار، والمقدم من المؤخر من الأمور والمثمن المقيّم من الرخيص المرذول من الأشياء.

ومن المنن على العباد نعمة الاستشعار ومنّة الشعور بقيمة الأيام ووزن الأوقات وثمين الأزمان "إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهد ربهم بإيمانهم تجري من تحتها الأنهار في جنات النعيم".

إن نعمة استشعار الأشياء والوقوف على قيمتها ومكانتها نعمة جليلة يوفق لها المخلصون من عباد الله ويقصر عنها الغافلون اللاهون.

واستشعار الأشياء الحسية والمعنوية هو معرفة حقيقتها ومكانتها ودرجتها وقيمتها ووزنها والشعور بما لها من قيمة، وهذا الشعور له أثره الكبير والتأثير الجليل على الاعتناء به والاهتمام به وتقديمه أو تأخيره ورفعه أو وضعه وأخذه أو رده.

وأعني هنا الفوز بالإحساس بقيمة الأوقات والأزمان والشهور والأيام، والشعور بحقيقتها من أجل استغلالها واغتنامها والمسارعة إلى جني ثمارها واقتطاف لذيذها وحلوها، وقالوا: من عرفك ثمنك ومن لا يعرفك يجهلك، ولذلك يقع الغافلون في أعراض كبار القدر ورفيعي المقدار والمقام "وإذا رآك الذين كفروا أن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي يذكر آلهتكم .... وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزواً أهذا الذي بعث الله رسولاً...).

أيها المسلمون.. لقد أمر الله تعالى عباده المؤمنين باستشعار ما يعرض عليهم من خير أو شر بأن يتبينونه ويتحققوا منه حتى يفوزوا بخيرات ما يعرض إن كان خيراً أو ينجو من الشرور والخسارة إن كان شراً، يقول تعالى "يأيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين".

أيها المسلمون.. من رزقه الله استشعار أيامه ومواسمه وأوقاته فقد فاز بخيري الدنيا والآخرة ، فلقد أثنى سبحانه على عباده الذين استشعروا مننه ونعمه ونصحه وإرشاده وقاموا بما أوجب عليهم ربهم، فقال "فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب"، وقال تعالى "أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى إنما يتذكر أولوا الألباب"، وقال عن أنبيائه ورسله "وكانوا لنا عابدين"، عندما عرفوا قدرهم وعقلوا أمر ربهم فلم ينصرفوا للدنيا بل قاموا بعبادة ربهم وأعدوا العدة للأخرة "أنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغباً ورهباً وكانوا لنا خاشعين".

أيها المسلمون.. إن عدم استشعار الأوقات ومواسم الخيرات والنعم الحسية والمعنوية ودعاة الخير وأهل النصح إن هذا لهو البلاء الكبير.

فلقد ذم الله تعالى ووبخ أقواماً لم يلتفتوا إلى نصح ربهم ورسلهم بل أعرضوا وانصرفوا فخسروا منافع الدنيا ومنازل الآخرة ، وصفهم الله بأنهم لا يعقلون .. لا يشعرون .. لا يعلمون وكم خسروا من الدنيا ولخسارة الآخرة أكبر فقد جهلوا مقام رسول الله وما جاءهم به لنجدتهم وفوزهم ولكنهم لم يوفقوا للاستشعار لكفرهم ومعصيتهم فإنهم كانوا مفسدين في الأرض ولكنهم لا يشعرون وكانوا سفهاء لا يعلمون، "وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون".

فلو تأنوا وتريثوا وتدارسوا الأمر وتحققوا منه واستشعروه كونه جاء به من كانوا يثقون فيه بالأمس ولكنهم كذبوا واستكبروا واستعلوا وسارعوا إلى رفض رسول الله وما جاء به ورده ففات عليهم كل خير وخسروا خسارة لا تعوض أبداً "قيل ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين".

أيها المسلمون.. كم من الناس لم يستشعروا مقام ومكانة من جاءه وأرسله الله إليه فخسره، وكم من الناس لم يستشعر الأخوة فباعها برخص، وكم من الناس لم يستشعر أخوة إخوانه فأهملها فضاعت حياته، وكم من لم يستشعر خطورة أكل الحقوق فتعدى الحدود فيها وكم من الناس فوت على نفسه الخير والفلاح لما لم يستشعر النعم إن القرآن يقص علينا أخبار أقوام لم يستشعروا النعم الحسية والمعنوية فتضرروا وخسروا وهلكوا يقول الله تعالى "فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون" وقال عن أقوام "فخر عليهم السقف من فوقهم وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون" ووصف حالهم بأنهم لم يستشعروا بسبب مكرهم واستعلائهم وبطرهم وإهمالهم وركونهم إلى الدنيا وإهمال جانب الله تعالى "ومكروا مكراً ومكرنا مكراً وهم لا يشعرون فانظر كيف كان عاقبة مكرهم أنّا دمرناهم وقومهم أجمعين فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا ان في ذلك لآية لقوم يعلمون ".

ولكم أن تنظروا في حال أبي طالب الذي لم يوفق ليستشعر مقام رسول الله ابن أخيه ودينه الذي جاء به ، يقول له ويناشده "يا عم قل لا إله إلا الله أحاج بها لك عند ربي"، فلم يستشعر المناشدة النبوية بفعل أبي جهل الذي كان بجواره يقول له: أترغب عن ملة عبدالمطلب ، فمات وهو يقول: على ملة عبدالمطلب، وهناك فرعون لم يستشعر مقام موسى عليه السلام ودينه بل استعلى واستكبر حتى رأى أن موسى عليه السلام سيفسد في الأرض ويبدل دين الفراعنة يقول "إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد " وقال "ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد "، فأهلكه الله تعالى وكل من خسر في الدنيا والأخرة فإنه لم يك يستشعر حقيقة المعروض عليه.

وما أكثر الذين لا يستشعرون اليوم، فتأخذهم أنفسهم وجهلهم ذات اليمين وذات الشمال، يفوتون على أنفسهم الخيرات والبركات والمنافع، وتسجل عليهم مواقف وأخلاق سلبية يعرفون بها وينبزون بها بسبب عدم استشعارهم لخطورة تصرفاتهم وسلوكياتهم.

أيها المسلمون .. لقد وفق الله تعالى السلف الصالح لهذه النعمة نعمة استشعار الأوقات والأزمان والمعروضات فنجدهم يستغلون الأوقات بما يعود على أنفسهم بالنفع الدنيوي والأجر الأخروي، فها هم يدعون ربهم ستة أشهر ليبلغهم رمضان ليقينهم أن رمضان مغفرة ورحمة وفوز بالدرجات والرضوان فإذا بلغوا الشهر قاموا وصاموا وعبدوا ربهم واستغلوا أيامه ولياليه حتى يودعوه فإذا رحل الشهر دعوا ربهم أن يتقبل منهم ستة أشهر ليقينهم أن من صام الشهر إيماناً واحتساباً غفرت له ذنوبه ومن غفرت له ذنوبه رحمه الله وأدخله الجنة.

كانوا يستشعرون قيمة صلاة الليل بعد المفروضة وقراءة القرآن وصلة الأرحام والعمل للأخرة وكان همهم الشاغل العمل على مرضات الله ولقائه بدينه القويم وعقيدته السمحة والإيمان الصحيح والعمل بهذا الإيمان.

أيها المسلمون .. ها هو الشهر الفضيل شهر الصيام أعظم الشهور يطرق أبوابكم وسينزل بإذن الله بعد أيام في ساحتكم فاستشعروا مقام الشهر ورفعة شأنه عند الله ورسوله.

إن شهر الصيام يستشعر مقامه بالوقوف على ما أودعه الله فيه من الأجور والخيرات والوعد الكريم لمن صامه وقامه واتقى ربه.

كان رسول الله يستشعر أصحابه مقام الشهر ، بباشرته لهم ببلوغهم إياه يقول "جاءكم شهر رمضان شهر مبارك كتب الله صيامه...." وكان صلى الله عليه وسلم يشمر عن سواعد الجد والعمل فيه ويتفرغ للعبادة واستثمار الوقت كما يستشعر مقام الشهر بمطالعة ما قال الله ورسوله في هذا الشهر وما أودع الله فيه من الأجور فأجر الصائم لا يعلمه إلا الله ، يقول "كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به".

ومن صام يوماً في سبيل الله باعد الله بين وجهه وبين النار سبعين خريفاً، فكيف بمن يصوم ثلاثين يوماً، والصيام يشفع لصاحبه يوم القيامة حتى يدخله الجنة.

وللصائمين باب خاص في الجنة اسمه باب الريان لا يدخل منه إلا الصائمون، وفي رمضان تغفر الذنوب كلها، وفيه تفتح أبواب الجنة وتغلق أبواب النيران ويستجاب فيه الدعاء للصائم، وتستغفر الملائكة للصائمين، فيه ليلة القدر العمل فيه خير من أربع وثمانين سنة، وفيه لله عتقاء من النار، هو شهر القرآن كلام الله تعالى المنزل على رسوله صلى الله  عليه وسلم، وفيه الدعاء "وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون"، واستشعر نعمة الله عليك الذي بلغك الشهر وتذكر من كان معك بالأمس من الأحبة والخلان والعزيزين عليك من الوالدين والأرحام الذين حالت المنية بينهم وبين أن يكونوا معك أو أن يدركوا الشهر، فها هو الله يبلغك الشهر ويمنّ عليك فاستشعروا النعم عليكم وقوموا بما أوجب الله لكم وأعدوا لأنفسكم مسكناً تسكنونه في الآخرة بعد الموت من الإيمان والعمل الصالح "يأيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعلمون ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون".

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم وفي هدي رسوله الأمين وتاب علي وعليكم وعلى المسلمين، أقول قولي هذا وأستغفر الله فاستغفروه ثم توبوا إليه إن ربي غفور ودود.

الخطبة الثانية:

الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه وسار على دربه وتمسك بسنته إلى يوم الدين.

أما بعد فيا أمة الإسلام إن نعمة الاستشعار، استشعار الشيء والإحساس بقيمته ووزنه له أثر كبير على حياة الإنسان.

فإذا استشعر الإنسان نعمة الله تعالى عليه بالصحة والعافية استعمل هذه الصحة فيما يعود عليه بالنفع ويعود عليه بالأجر في هذه الدنيا وفي الدار الآخرة

وإذا استشعر الإنسان نعمة الأمن والأمان في بلاده عرف هذه النعمة وقدرها وكان حارسا لها أو من الحراس عليها، وإذا استشعر الإنسان نعمة الأخوة التي جعلهم الله له من الاخوان والأخوات إذا استشعر هذه الاخوة حقيقة فإنه سوف يحرص على الصلة وسوف يحرص على المودة وسوف يحرص على أن ينال الأجر بصلة إخوانه وأخواته.

وإذا استشعر المرء خطورة قطع الأرحام ووقف على ماق الله تبارك وتعالى وقال رسوله صلى الله عليه وسلم في تهديد قاطع الرحم، إذا استشعر هذه الخطورة فلن تجد قاطع للرحم في المجتمع.

ولذك يا عباد الله إذا من الله تعالى على عبده بالإحساس بقيمة الشيء واستشعار الشيء فإنه قد وفق لخير الكثير.

ومن النعم التي ينبغي أن نستشعرها إخوتي الكرام من غير ما ذكرنا، هي نعمة التواصل في مواقع التواصل الاجتماعي التي سهل الله تعالى بها على الناس ما شاء أن يسهل، استطاع الناس بفضل الله ومنته في هذه المواقع أن ينتفعوا منافع كبيرة لم تكن تخطر ببالهم يوما من الأيام.

كم من الحوائج وكم من الأغراض التي كان الإنسان يحتاج إلى مشقة ويحتاج إلى مسافة طويلة وإلى دفع أموال ليوصل ورقة إلى أحد إخوانه أو ورقة إلى المكان الفلاني أو ليوصل عنوانا أو كتابا مؤلفا أو رسالة جامعية كل ذلك سهله الله عن طريق النت أو عن طريق هذه المواقع تصل في لحظات إلى من يريد الإنسان، ولكن للأسف يا إخوتي أن بعض الناس لم يستشعر نعمة هذه المواقع نعمة التواصل الاجتماعي لم يستعرها فدخل هذه الواقع سبابا لعانا طعانا يشتم يعيب على هذا وعلى ذاك ويتكلم في أعراض الناس، فأنا من هذا البلد وأنت من البلد الفلان وأنا صاحب الأصل وأنت لا أصل لك سبحان الله العظيم لو سأل هذا الإنسان نفسه من الذي جعلك ابنا لفلان أو فلانة ومن الذي جعلك من القبيلة الفلانية ومن الذي جعلك هنا وجعله هناك أليس الله سبحانه وتعالى، إذن أنت تعيب على قسمة الله تعالى ليس لك من الأمر شيء ولدت فإذا أنت في المجتمع الفلاني، "أهم يقسمون رحمت ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ورحمة ربك خير مما يجمعون". فليتقوا الله تعالى.

والبعض يا عباد الله شرق وغرب في اللعب في هذه المواقع إضافة على السب والشتم واللعن فإنه أخذ يصور أكلاته، فإذا أكل أكلة صورها وإذا شرب شربة صورها يشرق ويغرب في التصوير والبث وهذا والله يا إخواني من اللعب ومن العبث.

وأقول لكم صراحة إن بعض الناس عندما دخل إلى هذه المواقع إلى مواقع التواصل الاجتماعي أثبت أنه من القاصرين وأنه ممن قصرت عقولهم وأظلمت بصيرتهم فإنهم لا يعرفون، فعلى هؤلاء أن يتقوا الله في أعراض المسلمين وأن يقدروا نعمة الله عليهم بهذه النعم بهذه المواقع.

هذه نعم جعلها الله سبحانه وتعالى لعباده المسلمين ليستفيدوا منها وهي موقع خصب للدعوة إلى الله وإيصال الآيات والأحاديث والحكم والكلام  الطيب الذي يقنع الناس ويبصر الناس من غير المسلمين عن أخلاق المسلمين ودين المسلمين، لأن هناك من يشوش الإسلام وهناك من يحول بين الناس وأن يصلهم شيء عن الإسلام الحنيف عن الإسلام الصحيح عن دين الله عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فيا أمة الإسلام استشعروا نعمة الله عليكم وقردوا هذه النعم حتى تدوم عليكم بإذن الله.

أسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا وإياكم لما يحبه ويرضاه، هذا وصلوا وسلموا على من أمرتم بالصلاة والسلام عليه كما أمركم ربكم جل وعلا في محكم التنزيل بقوله: "إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما".

طباعة