خطبة الجمعة بجامع الإمام محمد بن عبدالوهاب الشيخ عبدالله بن محمد النعمة 4 جمادى الآخرة 1438هـ الموافق 3 مارس 2017م بعنوان "الستر"

  13-03-2017

 الخطبة الأولى

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إلا الله وحده لا شريك وأن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.

"يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون".

"يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا".

"يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا، يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما". 

أما بعد .. فإن أصدق الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.

أيها المسلمون .. الحياء والستر، وحب الطهر والعفاف، وسلامة العرض وصيانته، دعامة من دعامات بناء الأمة والمجتمعات، وأس من أسس صلاح الأفراد والشعوب، وهي في ذات الوقت من أسماء الله سبحانه تعالى الحسنى، ‏وصفاته العظمى، ومن أعز صفات الإنسان الدالة على سلامة جوهره، وطيب معدنه، وحبه للخير والصلاح، وبعده عن الشر والفساد، يحبها الله سبحانه تعالى في خلقه، ويحبها الناس في بعضهم.

‏أما إن ذهب الحياء وحب الستر من المرء فلا دواء له، ولا خير في وجه يقل حياؤه، ومن لم يصن عرضاً، ويستر عيباً، ويخف عاقبةً، ويخش خالقاً، ويستحي من مخلوق صنع ما شاء! وكفى عباد الله بالحياء والستر على الخير دليلاً، وعن السلام مخبرا، جاء في السنن بسند صحيح: أنه ‏صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله عز وجل حيي ستير يحب الحياء والستر"، ‏قال أهل العلم أن الله تعالى تارك للقبائح، ساتر للعيوب والفضائح،  يحب الحياء والستر من العبد، ليكون متخلقاً بأخلاق الله تعالى، فإن الله تعالى لا يحب الجهر بالسوء، ‏قال بعض المفسرين في قوله تعالى: "ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة"، قالوا: أما الظاهرة: فالإسلام والقرآن، وأما النعم الباطنة: فما يستر الله سبحانه وتعالى على عباده من العيوب

‏ عباد الله .. والنفس البشرية  ليست معصومة من الخطأ والزلل، بل هي مجبولة على المعصية، مفطورة على حب الشهوات والمخالفات، لكن المؤمن إذا حدثته نفسه بالمعصية امتنع منها، فإن غلبه الشيطان أو النفس أو رفاق السوء، فأوقعوه في المعصية، فالمشروع في حقه ‏ألا يستمرئ المعصية، ولا يصر عليها، وأن يستر نفسه بستر الله، ولا يحدث بها أحداً، ثم الواجب عليه بعد ذلك التوبة النصوح منها، والاستغفار والعودة إلى الله الذي يقبل التوبة عن عباده، ويعفو عن السيئات ، فمن كانت هذه حاله ‏فإن الله تعالى يستره، ويغفر له، بهذا وعد الله سبحانه وتعالى عباده المستترين المحبين للحياء التائبين العائدين إلى الله، قال الله: " وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَىٰ مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ ، أُولَٰئِكَ جَزَاؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ۚ وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِين"

وفي الصحيحين أنه ‏صلى الله عليه وسلم قال: "إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُدْنِي الْمُؤْمِنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يَضَعَ عَلَيْهِ كَنَفَهُ يَسْتُرُهُ مِنَ النَّاسِ ، فَيَقُولُ : أَيْ عَبْدِي ! تَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا وَكَذَا ؟ فَيَقُولُ : نَعَمْ أَيْ رَبِّ ! حَتَّى إِذَا قَرَّرَهُ بِذُنُوبِهِ ، وَرَأَى فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ قَدْ هَلَكَ، قَالَ : إِنِّي قَدْ سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا ، وَقَدْ غَفَرْتُهَا لَكَ الْيَوْمَ "، ‏وكانت عائشة رضي الله عنها تقول لمن يذنب من النساء: ‏"يا نساء المؤمنين إذا أذنبت إحداكن كن ذنباً فلا تخبرن به الناس ولتستغفرن الله ولتتب إليه فإن العباد يُعيرون ولا يُغيرون والله تعالى يُغير ولا يُعير".

‏عباد الله ... وإن من رحمة الله سبحانه وتعالى بهذه الأمة أن ستر عليها ذنوبها ومعاصيها، واشرع لها التوبة والاستغفار منها، وكانت بنو إسرائيل إذا أذنب أحدهم ذنباً اصبح مكتوب بين عينيه ذنبه الذي فعل فيفتضح بين الناس، ولأجل هذا أيها المسلمون أمر المسلم إذا ألم بمعصية أن يستر نفسه ولا يفضحها ولا يجاهر بمعصيته ويخبر بها، وأن يتبعها التوبة النصوح والاستغفار منها.

 عن عثمان بن أبي سودة قال: "لا ينبغي لأحد أن يهتك ستر الله تعالى قيل: وكيف يهتك ستر الله؟ قال: يعمل الرجل ‏الذنب فيستره الله سبحانه وتعالى عليه فيذيعه في الناس" ‏.

وكان منهجه عليه الصلاة والسلام ومنهج خلفائه الراشدين من بعده الستر على أهل الذنوب والمعاصي غير المجاهرين. وكان صلى الله عليه وسلم كما عند أبي داود بسند صحيح يأمر أصحابه بتعافي الحدود فيما بينهم. ويقول أبوبكر رضي ‏الله عنه " لو أخذت سارقا لأحببت أن يستره الله ولو أخذت شاربا لأحببت أن يستره الله عز وجل" وكان بعض قادة عمر بن الخطاب رضي الله عنه على جيش فقال للعسكر: "إنكم نزلتم أرضا فيها نساء وشراب ‏فمن أصاب منكم أحد فليأتنا حتى نطهره،  فبلغ ذلك عمر فكتب إليه منكرا عليه:" قال عمر لا أم لك تأمر قوما ستر الله عليهم أن يهتك ستر الله عليهم".

أيها المسلمون .. ‏على المرء أن يعلم أنه وإن كان الله حليما ستيرا غفورا عفوا، فإنه سبحانه شديد العقاب فلا ينبغي أن تحمله صفات الحلم والستر التي لله تعالى كمالها المطلق على ‏الاستهانة بالمعاصي والمنكرات، والاختفاء بها عن أنظار الناس لأن الله تعالى يغار وغيرة الله سبحانه وتعالى أن يأتي العبد ما حرم الله ولأجل هذا حرم الله الفواحش ما ظهر منها وما بطن قال تعالى "يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَىٰ مِنَ الْقَوْلِ ۚ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا"، يقول القائل:

وَإِذا خَلَوتَ بِرِيبَةٍ في ظُلمَةٍ     

وَالنَفسُ داعيَةٌ إِلى الطُغيانِ 

 

فاِستَحي مِن نَظَرِ الإِلَهِ وَقُل لَها       

إِنَّ الَّذي خَلَقَ الظَلامَ يَراني

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تستمعون وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .

الخطبة الثانية

الحمد لله وكفى والصلاة والسلام على عبده المصطفى محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه ومن اقتفى، أما بعد، فاتقوا الله أيها الناس حق التقوى واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى واحذروا المعاصي فإن أقدامكم على النار لا تقوى.

أيها المسلمون .. اعلموا رحمكم الله أن الستر على المسلمين وتغطية عيوبهم وأخطائهم وإخفاء زلاتهم وهفواتهم والبعد عن تتبع عوراتهم وفضح أسرارهم من أعظم الآداب التي دعت إليها شريعة الإسلام ورغّبت فيها، ورتبت عليها الأجور العظيمة في الدنيا والآخرة:

يقول ابن عمر رضي الله عنهما :-  صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر فنادى بصوت رفيع فقال: "يا معشر من أسلم بلسانه ولم يفض الإيمان إلى قلبه، لا تؤذوا المسلمين ولا تعيروهم ولا  تتبعوا عوراتهم، فإنه من تتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف بيته".

وعن أبي هريرة رضي الله عنه في الحديث الذي رواه الإمام مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال : "لا يستر عبد عبدا في الدنيا إلا ستره الله يوم القيامة".

والستر عباد الله الستر على المسلم عباد الله ليس فيه ما يقتضي ترك الإنكار عليه إذا فعل معصية أو خالف أمر الله سبحانه ، بل الإنكار عليه ونصحه فيما بينه وبينه ، وإقامة الحجة عليه من الواجبات بين المسلمين، ما لم يكن هذا الإنسان مجاهرا بمعصية؛ حيث نص أهل العلم على انه لا يجوز التجسس على المستترين بالمعاصي، ولا يجب على أحد أن يكشف منكرا قد ستر، بل الواجب النصح والسعي إلى تغييره بالحكمة والموعظة الحسنة ، لقوله تعالى "يا أيها لذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا"، ‏عن  العلاء بن بدر قال: "لا يعذب الله قوماً يستترون بالذنوب".

والناس عباد الله في هذا الجانب نوعان: أحدهما من كان مستوراً لا يُعرف بشيءٍ من المعاصي والمنكرات، فمثل هذا إذا وقعت منه هفوة أو زلة فإنه لا يجوز كشفها ولا التحدث بها، وقد ثبت عند أحمد وأبي داود أنه صلى الله عليه وسلم قال: "أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم" والستر في مثل هذا الحال علاج شرعي عظيم.

وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ, لَا يَظْلِمُهُ, وَلَا يُسْلِمُهُ, وَمَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ, كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ, وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً, فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرُبَاتِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ, وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا, سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ".

أما النوع الثاني: من كان معروفاً بالأذى والفساد، مستهتراً بالمعاصي، معلناً لها، مجاهراً بها على الملأ، لا يبالي فيما ارتكب ، فهذا هو المجاهر المعلن الذي ليس له غيبة، ولا يُستتر ويُكشف أمره، وتقام عليه الحدود، كما قال أهل العلم؛ لأن الستر على هذا يطمعه في المعاصي، ويقوده إلى الفساد. وقد ثبت في الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم قال: "كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إِلَّا الْمُجَاهِرِينَ وَإِنَّ مِنْ الْمُجَاهَرَةِ أَنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ عَمَلاً ثُمَّ يُصْبِحَ وَقَدْ سَتَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ فَيَقُولَ يَا فُلَانُ عَمِلْتُ الْبَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللَّهِ عَنْهُ"، فاتقوا الله عباد  الله وتأدَّبوا بآداب الاسلام، وتحلُّوا بأخلاقه، ثم صلوا وسلِّموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه فقال عز من قائل "إنّ اللهَ وملائكتَهُ يُصَـلُّونَ على النبي يا أيها الذين آمنوا صَلُّوا عليه وسلِّمُوا تسليما".

اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.

 

طباعة