خطبة الشيخ الدكتور/ الشيخ عبدالله محمد النعمة بتاريخ 2017/1/13 م

  15-01-2017
اضغط على الصورة لعرضها بالحجم الطبيعي

 بعنوان "بر الوالدين"




الخطبة الأولى: 

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إلا الله وحده لا شريك وأن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.

"يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون".

"يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا".

"يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا، يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما". 

أما بعد .. فإن أصدق الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.

 

روى الترمذي عن أبي ذر و معاذ بن جبل رضي الله عنهما، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " اتق الله حيثما كنت وأتبع الحسنة السيئة تمحها وخالق الناس بخلق حسن"، بين النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الذي يعد جوامع كلمه و عظيم وصاياه، بين الحقوق الواجبة على العبد، وهي حق الله في قوله (اتق الله)، وحق النفس (وأتبع الحسنة السيئة تمحها) وحق العباد (وخالق الناس بخلق حسن).

ولعلنا هنا نتطرق للحق الثالث وهو من الأهمية بمكان إن لم يكن أهمها، لارتباطه بحقوق العباد التي لا يغفرها الله ولا تمحو سيئاتها الحسنات.

حقوق العباد، التي جاء بها الإسلام ليربط المجتمع بنظام رباني يقضي إلى الألفة والمودة والتعاون، قال تعالى: "وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ۖ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ".

أمر الله سبحانه بعبادته وحده لا شريك له، ثم أوصى بالإحسان وأداء الحقوق إلى أهلها، وعلى رأس القائمة الإحسان إلى الوالدين، ثم عطف بالإحسان إلى القرابات واليتامى والجيران وغيرهم.

وهكذا عباد الله، جاء الإسلام لينظم علاقات المجتمع على اختلاف طبقاته وسائر مستوياته بنظام رباني يشد عراه، ويجمع أفراده على كلمةٍ سواء، مجتمع متكاتف متعاضد، مثله كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى. 

ومن أعظم ما يكون هذا المجتمع هو الأسرة، هي نواته، بصلاحها يصلح المجتمع بأسره، وقوام هذه الأسرة هما الوالدين -الأب والأم- لهما حقوق عظيمة عظمها في برهما والتحذير من عقوقهما، واستفاضت الآثار في الإحسان إليهما، قرن الله سبحانه وتعالى حقهما بحقه، وجعل شكرهما من شكره، قال سبحانه: "واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا وبالوالدين إحسانا" "وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا".

وما ذاك الاهتمام وتلك العناية إلا لفضلهما على أولادهما، فالوالدان بعد الله سبب من أسباب وجود الولد، ولهما عليه حقٌ عظيمٌ وكبيرٌ، اذ ربياه صغيرا، وسهرا عليه وليدا، وتعبا من أجل راحته كبيرا.

يقول ابن عباس رضي الله عنهما: ثلاث آيات مقرونات بثلاث، ولا تقبل واحدة بغير قرينتها: (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) فمن أطاع الله ولم يطع الرسول لم يُقبل منه. (وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ) فمن صلَّى ولم يُزكِّ لم يُقبل منه. (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إليَّ المصير) فمن شكر لله ولم يشكر لوالديه لم يُقبل منه فرضى الله في رضا الوالدين، وسخط الله في سخط الوالدين).

إن حق الوالدين عظيم ومعروفهما لا يجازى، ‏وبرهما جاء في الإسلام مطلقا بدون قيد أو شرط،  حتى ولو كانا مشركين، بل وأبعد من ذلك، حتى ولو جاهداك على أن تشرك بالله شيئا فلا يسقط حق الإحسان إليهما وما صاحبتهما في الدنيا بالمعروف .... الوالدان باب من أبواب الجنة وبرهما طريق موصل إلى الجنة. 

قال ابن عباس رضي الله عنهما: (مَا مِنْ مُسْلِمٍ لَهُ وَالِدان مُسلمان يُصْبِحُ إِلَيْهِمَا مُحْتَسِبًا إِلَّا فَتْحَ اللَّهُ له بابين - يعني في الجنة - وإن كان واحد فَوَاحِدٌ).

عباد الله.. وبر الوالدين سبب في بسط الرزق وطول العمر، وهو سببٌ في دفع المصائب ، وسببٌ في إجابة الدعاء، واسمع يا رعاك الله إلى نبأ أويس بن عامر القرني: ذاك رجل أنبأ النبي صلى الله عليه وسلم بظهوره وكشف عن سنا منزلته، وأمر البررة الأخيار من آله وصحبه بالتماس دعوته وابتغاء القربى إلى الله بها، ما كانت أعماله ؟ وما الذي جعل ثاني خليفة للمسلمين عمر بن الخطاب يسأله الدعاء والاستغفار؟ وما كانت آيته إلا برّه بأمه، أخرج مسلم عن أسير بن عمرو (كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه إِذَا أَتَى عَلَيْهِ أَمْدَادُ أَهْلِ الْيَمَنِ سَأَلَهُمْ : أَفِيكُمْ أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ ؟ حَتَّى أَتَى عَلَى أُوَيْسٍ فَقَالَ : أَنْتَ أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ ؟ قَالَ : نَعَمْ . قَالَ : مِنْ مُرَادٍ ، ثُمَّ مِنْ قَرَنٍ ؟ قَالَ : نَعَمْ . قال: فَكَانَ بِكَ بَرَصٌ فَبَرَأْتَ مِنْهُ إِلَّا مَوْضِعَ دِرْهَمٍ ؟ قَالَ : نَعَمْ . قَالَ لَكَ وَالِدَةٌ ؟ قَالَ : نَعَمْ . قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : ( يَأْتِي عَلَيْكُمْ أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ مَعَ أَمْدَادِ أَهْلِ الْيَمَنِ ، مِنْ مُرَادٍ ، ثُمَّ مِنْ قَرَنٍ ، كَانَ بِهِ بَرَصٌ فَبَرَأَ مِنْهُ إِلَّا مَوْضِعَ دِرْهَمٍ ، لَهُ وَالِدَةٌ هُوَ بِهَا بَرٌّ ، لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ ، فَإِنْ اسْتَطَعْتَ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَكَ فَافْعَلْ ) فَاسْتَغْفِرْ لِي . فَاسْتَغْفَرَ لَهُ .

فانظر يا رعاك الله المنزلة التي بلغها هذا البار بأمه حتى كان من شأنه أن يخبر عنه المصطفى-صلى الله عليه وسلم-وأن يقول لعمر: (إن استطعت أن يستغفر لك فافعل(.

عباد الله هذا غيض من فيض في بِر الوالدين والاحسان لهما فحريٌ بنا أن نلتمس الجنة عند أقدامهما ونسعى لبرهما وأداء حقوقهما ...

 

الخطبة الثانية:

عباد الله .. إن حق الوالدين عظيم ، ولن يستطيع أحد أن يوفيهما حقهما مهما عمل من عمل روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا يجزي ولدٌ والداً إلا أن يجده مملوكاً فيشتريه فيعتقه). 

قال ابن عباس رضي الله عنهما: (إني لا أعلم عملاً أقرب إلى الله عز وجل من بر الوالدة).

لقد خص الشرع الأم بمزيدٍ من الوصية ببرها ، لما تكابد من تعب ومشقة في الحمل والولادة والإرضاع جاء في الصحيحين: ‎عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : "جاء رجلٌ إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال : يا رسول الله، من أحق الناس بحسن صحابتي؟، قال: (أمك) ، قال: ثم من؟ قال: (أمك) ، قال: ثم من؟ قال: (أمك) ، قال: ثم من؟ قال: (أبوك) متفق عليه .

وجاء رجل الى عمر بن الخطاب رضي الله عنه - فقال : (إن لي أما بلغ منها الكبر إنها لا تقضي حوائجها إلا وظهري لها مطية ، فهل أديت حقها ؟ فقال له عمر: ما أديت حقها ، إنها كانت تصنع ذلك بك وهي تتمنى بقائك، وأنت تصنعه وأنت تتمنى فراقها (.

إنه القلب الرحيم والصدر الحنون، إنه المخلوق الذي قدم وضحى ولم ينزل ، كم حزن لتفرح ، وجاع لتشبع ، وبكى لتضحك ، وسهر لتنام ، وتحمل الصعاب في سبيل راحتك ، اذا فرحت فرح ، وان حزنت حزن ، اذا داهمك الهم فحياته في غم امله أن تحيى سعيداً ، مناه ان يرفرف السرور في سمائك أنه المخلوق الضعيف الذي يعطي  ولا يطلب اجراً ، ويبذل ولا يأمل شكراً ، هل سمعت عن مخلوق يحبك اكثر من ماله؟؟  لا بل أكثر من دنياه، لا بل أكثر من نفسه التي بين جنبه، نعم يحبك اكثر من نفسه، إنها الأم ... الأم وكفى. أخرجه أحمد والنسائي من حديث عائشة رضي الله عنها - إنها سألت النبي صل الله يسلم: أي الناس أعظم حقا على المرأة؟ قال: "زوجها"،  قالت: فقلت على الرجل؟ قال "أمه"

‏فأحذر يا عبد الله عقوق الوالدين ، فإنه من أكبر الكبائر بعد الإشراك بالله، ومن أعظم الذنوب عند الله، واعلم إنك مجزىً بعملك في الدنيا والآخرة، ‏يقول العلماء كل معصية تؤخر عقوبتها بمشيئة الله إلى يوم القيامة، الا العقوق فإنه يعجل ‏له في الدنيا، كما ثبت ذلك من قول النبي صلى الله عليه وسلم من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:( ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة: العاق لوالديه ،  ومدمن الخمر، والمنان).

‏فيا عبد الله اتق الله في والديك وخاصة في امك،  برهما وأدي حقهما فإنهما سبب لسعة الرزق، وطول العمر، وحسن الخاتمة.

ولأننا يا عباد الله في زمن قد عظمت غربته، واشتدت كربته، فلم يرحم الأبناء دموع الآباء، ولم يرحم البنات شفقة الأمهات، في هذا الزمان الذي قل فيه ‏البر وزاد فيه العقوق والشر، كم نحن بحاجة إلى من يذكرنا فيه بحق الوالدين وعظيم الأجر لمن برهما لذا كانت هذه الكلمات.

 

لينك الاستماع: https://www.mediafire.com/?8sderdv8prakvxm

 

 

طباعة